الصحة النفسية عند الرجال تعد ركيزة أساسية للعافية الشاملة التي لا يمكن الاستهانة بها؛ ورغم ذلك فهي تواجه تهميشًا واضحًا في مجتمعاتنا نتيجة للأعراف السائدة التي تفرض على الرجل كبت مشاعره وإخفاء آلامه خلف قناع الصلابة المزيف، وهذا ما أكده تقرير “أونلي ماي هيلث” الذي أشار إلى خطورة الصمت وتأثيره المدمر على استقرار الرجل النفسي والجسدي على حد سواء، حيث يعاني الكثيرون من صراعات داخلية عميقة نابعة من التوقعات المجتمعية العالية والضغوط الحياتية المستمرة.
تحديات الصحة النفسية عند الرجال بين الاكتئاب والقلق الخفي
يشير الدكتور جوبال بهاتيا استشاري الطب النفسي في أحد المستشفيات بالهند إلى ضرورة معالجة قضايا الصحة النفسية عند الرجال في مراحل مبكرة لتحقيق نتائج علاجية أفضل؛ فالرجال غالبًا ما يتجنبون طلب الدعم المتخصص خوفًا من الوصمة الاجتماعية التي تلاحقهم، وهذه الأعراف تشجعهم على دفن عواطفهم مما يؤدي إلى تفاقم حالتهم وتأخر التشخيص الدقيق، وبالتالي تزداد المخاطر الصحية والعواقب السلبية التي كان من الممكن تجنبها لو تم التدخل في الوقت المناسب، وتشير الأبحاث إلى أن الرجال أكثر عرضة لبعض الاضطرابات التي لا يتم رصدها بسهولة مقارنة بالنساء.
تختلف أعراض الاكتئاب لدى الذكور بشكل جذري عن الصورة النمطية المعروفة للحزن والبكاء؛ إذ يوضح الدكتور بهاتيا أن الرجل قد لا يعبر عن حزنه بالطرق التقليدية بل يميل إلى إظهار الغضب الشديد أو الانزعاج المستمر أو حتى الانسحاب الاجتماعي الكامل، وهذه العلامات غير النمطية تجعل المجتمع وحتى بعض المتخصصين يغفلون عن تشخيص الاكتئاب لديهم، وتؤكد الدراسات أن إظهار الانفعال وتقلب المزاج بدلًا من الحزن يعد مؤشرًا خطيرًا، وإذا تُرك هذا الاكتئاب دون علاج فعال فقد يتطور إلى عواقب وخيمة تشمل الأفكار والسلوكيات الانتحارية التي تهدد الحياة بشكل مباشر.
يعاني قطاع واسع من الذكور من اضطرابات القلق التي تختفي عادةً تحت ستار القوة والتحمل؛ حيث يشعر الرجل بضغط هائل لأداء واجباته وتوفير احتياجات أسرته وعدم إظهار أي لحظة ضعف سواء في بيئة العمل أو داخل المنزل، ويؤكد الدكتور بهاتيا أن دفن المشاعر والاعتقاد بضرورة الاعتماد الكلي على النفس يؤدي مع مرور الوقت إلى تراكمات نفسية تؤثر سلبًا على جودة النوم والعلاقات الشخصية ونمط الحياة العام، ويمكن أن تتحول هذه الضغوط الداخلية إلى حالات مزمنة من التوتر والقلق تتطلب تدخلات علاجية مثل العلاج السلوكي المعرفي أو ممارسات اليقظة الذهنية لاستعادة التوازن المفقود.
مخاطر تجاهل أزمات الصحة النفسية عند الرجال وتأثيرها الجسدي
عندما يجد الرجل نفسه محاصرًا بلا وسيلة صحية للتأقلم يلجأ الكثيرون إلى سلوكيات خطرة لتخفيف الألم النفسي؛ وتشمل هذه السلوكيات تعاطي الكحول أو التدخين بشراهة أو استخدام المخدرات كنوع من العلاج الذاتي الخاطئ، وهذا الدخول في دائرة الإدمان المفرغة يعقد المشهد العلاجي بشكل كبير، وبحسب الدكتور بهاتيا فإنه بحلول الوقت الذي يقرر فيه الرجل طلب المساعدة يكون تعاطي المواد المخدرة قد أخفى المشاكل الأصلية العميقة مثل القلق والاكتئاب، مما يجعل التزامن بين الأمراض النفسية والإدمان تحديًا طبيًا يتطلب حلولًا عاجلة واكتشافًا مبكرًا عبر محادثات صادقة ومساعدة مهنية متخصصة.
تؤثر الحالة النفسية بشكل مباشر على الصحة الجسدية حيث يرتبط تدهور الصحة النفسية عند الرجال بظهور أمراض مزمنة مثل مرض السكري؛ وهناك علاقة طردية بين التوتر المزمن واضطراب مستويات السكر في الدم مما يجعل التوعية أمرًا حيويًا للحفاظ على الجسم والعقل معًا، ويوضح الجدول التالي أبرز الفروقات بين العلامات التقليدية والعلامات الخفية للاضطرابات عند الرجال لتسهيل عملية الرصد والملاحظة:
| نوع الاضطراب | الأعراض التقليدية (المتوقعة) | الأعراض عند الرجال (الخفية) |
|---|---|---|
| الاكتئاب | البكاء، الحزن العميق، اليأس | الغضب، الانفعال، الانسحاب، التهور |
| القلق | الخوف الواضح، العصبية | العمل المفرط، آلام جسدية، اضطراب النوم |
استراتيجيات تعزيز الصحة النفسية عند الرجال وخطوات العلاج الفعال
يقدم الطب النفسي خارطة طريق عملية للتعامل مع هذه التحديات تبدأ بكسر حاجز الصمت؛ حيث ينصح الخبراء بضرورة إجراء حوارات صريحة ومفتوحة حول المشاعر داخل العائلات وبين مجموعات الأصدقاء والأخوة لخلق بيئة داعمة، كما يجب على الأطباء في العيادات العامة إجراء فحوصات دقيقة والاستفسار بتعاطف عن علامات الانفعال وتغيرات النوم ومستويات التوتر وليس فقط الأعراض الجسدية الظاهرة، بالإضافة إلى ضرورة تطبيق المؤسسات لبرامج صحية شاملة في أماكن العمل تركز على دعم الموظف نفسيًا ولا تقتصر أهدافها على زيادة الإنتاجية المادية فقط.
تتطلب عملية التعافي بناء روتين يومي متوازن يعزز من مناعة الرجل النفسية ويحميه من الانهيار؛ وتشمل الخطوات العملية التي نصح بها الدكتور بهاتيا مجموعة من الإجراءات التي يمكن دمجها في الحياة اليومية لتقليل حدة الضغوط والسيطرة على التوتر بشكل استباقي قبل تفاقمه، وفيما يلي أهم النصائح والتوجيهات الطبية التي يجب اتباعها لاستعادة السيطرة على الحياة:
- بناء روتين يومي صحي يشمل ممارسة الرياضة بانتظام والحصول على قسط كافٍ من النوم ليلًا.
- تخصيص دقائق يومية للراحة النفسية وممارسة تقنيات التأمل أو التنفس العميق لتصفية الذهن.
- استخدام أدوات عملية للسيطرة على التوتر مثل تدوين المذكرات لتفريغ المشاعر أو اللجوء لليقظة الذهنية.
- التحدث بوضوح عن المشاكل مع الأصدقاء المقربين أو العائلة أو استشارة مستشار نفسي مختص.
- تجنب العلاج الذاتي والابتعاد عن استخدام الأدوية المهدئة أو المنومة كوسيلة للتأقلم دون إشراف طبي.
- مراقبة الأمراض المزمنة بعناية خاصة مرض السكري والتعامل مع الصحة النفسية بجدية تامة كجزء من العلاج.
الاهتمام بملف الصحة النفسية عند الرجال يتطلب وعيًا جماعيًا يربط بين سلامة الجسد واستقرار النفس؛ فالتوازن الحقيقي لا يتحقق إلا عندما ندرك أن طلب المساعدة هو قمة الشجاعة وليس دليلًا على الضعف، وأن العناية بالعقل والمشاعر هي الخطوة الأولى نحو حياة خالية من الأمراض ومليئة بالإنجاز الحقيقي المستدام.
