التفاعل مع الذكاء الاصطناعي أصبح المحور الرئيسي للنقاشات الدائرة حول مستقبل التواصل البشري والتقني في حياتنا اليومية، إذ تشير الأدلة المتزايدة إلى تحول جذري في سلوكيات المستخدمين الذين باتوا يفضلون الحوار مع الروبوتات في مواقف معينة، بينما يصر فريق آخر على أهمية العنصر البشري في القطاعات الحساسة، مما يضعنا أمام مشهد معقد تتداخل فيه التكنولوجيا مع المشاعر الإنسانية.
واقع وتحديات التفاعل مع الذكاء الاصطناعي في خدمة العملاء
تشير التوقعات الصادرة عن قادة قطاع التكنولوجيا، مثل سام ألتمان من شركة OpenAI، إلى أن وظائف خدمة العملاء ستكون الأكثر تأثرًا بهذه الطفرة التقنية، وقد تصبح شيئًا من الماضي تمامًا، لكن الواقع العملي يبدو أكثر تعقيدًا مما تظهره التنبؤات الأولية؛ فقد كشفت دراسات معمل الاقتصاد الرقمي بجامعة ستانفورد عن انخفاض في التوظيف بمراكز الاتصال بنسبة عشرة بالمائة، وهو ما يعكس بداية موجة تغيير حقيقية في هيكلة الوظائف، ومع ذلك تحذر مؤسسات بحثية عريقة مثل Gartner من أن إزالة البشر كليًا غير واقعية حاليًا، مؤكدة أن الشركات التي اندفعت نحو الأتمتة الشاملة بدأت تعيد دمج الموظفين البشريين لضمان جودة الخدمة.
| الجهة / المصدر | التوقعات والمؤشرات المرصودة |
|---|---|
| سام ألتمان (OpenAI) | احتمالية زوال وظائف خدمة العملاء التقليدية بالكامل |
| جامعة ستانفورد | تراجع التوظيف في مراكز الاتصال بنسبة 10% حتى منتصف 2025 |
| مؤسسة Gartner | فشل الأتمتة الكاملة وضرورة إعادة العنصر البشري |
لا يتوقف الأمر عند الحدود التقنية فحسب، بل يمتد ليشمل تفضيلات العملاء الذين غالبًا ما يقيمون التفاعل مع الذكاء الاصطناعي بشكل سلبي مقارنة بالموظفين البشريين، خاصة عندما يشعرون أن الشركة تستخدمه لتقليل النفقات لا لتحسين الجودة؛ وهذا الوضع خلق عبئًا جديدًا على موظفي مراكز الاتصال الذين أصبحوا مطالبين ببذل جهد إضافي لإقناع المتصلين بأنهم بشر حقيقيون وليسوا مجرد برمجيات صوتية متطورة، مما يبرز أزمة ثقة تتطلب معالجة دقيقة لتحسين تجربة المستخدم.
كفاءة التفاعل مع الذكاء الاصطناعي في التوظيف
على الجانب الآخر من المعادلة، أظهرت أبحاث ميدانية أجريت في الفلبين نتائج لافتة تتعلق باستخدام الروبوتات الصوتية في مقابلات العمل، حيث تبين أن التفاعل مع الذكاء الاصطناعي قد يحقق نتائج أفضل من المحاورين البشريين في الوظائف التي تتطلب مهارات منخفضة؛ والسبب يعود لالتزام هذه الأنظمة بالمعايير الدقيقة وتغطية كافة المحاور المطلوبة دون تحيز، مما أدى لجمع بيانات أكثر دقة ومنح تقييمات موضوعية تفوقت في جودتها على تقييمات مسؤولي التوظيف التقليديين.
وقد أظهرت التجربة عدة مزايا جعلت المتقدمين يفضلون هذه الطريقة الحديثة، ويمكن تلخيص أبرز ما لمسه المرشحون في النقاط التالية:
- الشعور بقلة التوتر والضغط النفسي مقارنة بمواجهة محاور بشري
- الحصول على فرصة عادلة للإجابة دون مقاطعة أو أحكام مسبقة
- تفضيل الغالبية العظمى لإجراء المقابلة عبر أنظمة الذكاء الاصطناعي
أبعاد التفاعل مع الذكاء الاصطناعي في الصحة النفسية
في مجال يبدو أكثر حساسية وخصوصية، تكشف الأبحاث أن شريحة واسعة من المستخدمين تفضل مناقشة قضاياها الصحية والنفسية عبر التفاعل مع الذكاء الاصطناعي بدلاً من اللجوء للمتخصصين، حيث يجدون في الروبوتات قدرة عالية على إظهار التعاطف، خاصة في المحادثات النصية، بالإضافة إلى توفير مساحة آمنة خالية من الشعور بالخزي أو الإحراج؛ وقد أشارت النتائج إلى تحسن ملحوظ في مؤشرات الاكتئاب لدى من استخدموا هذه الأدوات، مما يفتح الباب لتوسيع نطاق خدمات الصحة النفسية لمن يواجهون عوائق في الوصول للدعم البشري.
ورغم هذه الإيجابيات، فإن الصورة لا تخلو من المخاطر الجسيمة، فقد سُجلت حالات نادرة أثارت قلقًا واسعًا تضمنت ظهور أعراض “ذهان مرتبط بالذكاء الاصطناعي” وحادثة انتحار مأساوية لمراهق بعد حوارات مطولة مع نموذج محادثة؛ وهذا يفرض ضرورة وضع معايير أمان صارمة تحكم التفاعل مع الذكاء الاصطناعي لضمان عدم تحول هذه الأداة المساعدة إلى مصدر خطر يهدد حياة المستخدمين الأكثر ضعفًا وتأثرًا.
تكشف هذه الاتجاهات المتناقضة عن مفارقة سلوكية غريبة، فالمستخدم الذي يغضب بشدة عند الضغط على زر للتحدث مع موظف بشري لحل مشكلة تقنية بسيطة، هو نفسه الذي قد يختار طواعية أن يبوح بأعمق أسراره النفسية لبرمجية ذكية، ويكمن الفارق هنا في طبيعة المهمة وحرية الاختيار، مما يتركنا أمام تساؤل جوهري حول ما إذا كان المستقبل سيجعل التفاعل مع الذكاء الاصطناعي هو الخيار الطبيعي والمفضل للبشرية جمعاء.
