تراجع معدلات الخصوبة في السعودية وتزايد الطلاق: “الزواج الصامت” يعيد تشكيل واقع الأسرة

تراجع معدلات الخصوبة في السعودية وتزايد الطلاق: “الزواج الصامت” يعيد تشكيل واقع الأسرة

يعتبر ملف انخفاض معدلات الخصوبة في السعودية واحداً من أبرز التحولات الديموغرافية الحادة التي تشهدها المملكة في تاريخها الحديث؛ إذ تراجعت الأرقام من متوسط 7 أطفال لكل امرأة خلال حقبة الستينيات لتصل إلى 2.1 طفل فقط في عام 2022، وهو الرقم الذي يمثل حد “الإحلال السكاني” الضروري للحفاظ على الثبات الديموغرافي، وقد كشف تقرير “الاقتصاد السكاني في السعودية” الصادر عن مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية أن هذا التغير الجذري لا يحدث بمعزل عن عوامل اجتماعية أخرى، بل يتزامن مع ارتفاع ملحوظ في حالات الطلاق وتغيرات عميقة في بنية الأسرة السعودية.

ملامح التحول السريع وواقع انخفاض معدلات الخصوبة في السعودية

تصف التقارير الدولية والمحلية ما يحدث بأنه تحول ديموغرافي مفاجئ وليس تدريجياً كما هو الحال في دول أخرى؛ ففي عام 2018 ولأول مرة في تاريخ البلاد تجاوز عدد كبار السن ممن هم فوق 65 عاماً عدد الأطفال دون سن الخامسة، ويعود هذا الانقلاب في الهرم السكاني بشكل رئيسي إلى تحسن جودة الحياة والرعاية الصحية الذي رفع متوسط الأعمار، بالتوازي مع انخفاض معدلات الخصوبة في السعودية بوتيرة متسارعة، وتبرز هنا مفارقة جغرافية لافتة للنظر داخل المملكة نفسها؛ حيث تظهر البيانات تبايناً شاسعاً بين المناطق الحضرية الكبرى والمناطق الطرفية فيما يتعلق بأعداد المواليد ونمط الحياة الأسري.

المؤشر الديموغرافي البيانات والإحصائيات المرصودة
معدل الخصوبة في المدن الكبرى (الرياض، مكة) انخفاض ملحوظ يتراوح بين 2.5 إلى 2.9 طفل
معدل الخصوبة في المناطق الحدودية (مثل الجوف) معدلات مرتفعة تصل إلى 4.4 طفل لكل امرأة
معدل الطلاق (بحلول 2020) ارتفاع بنسبة 57.6% (حوالي 7 حالات في الساعة)

يشير هذا التباين في الأرقام إلى أن نمط الحياة المدني المتسارع يلعب دوراً حاسماً في تعزيز ظاهرة انخفاض معدلات الخصوبة في السعودية؛ حيث يتجه سكان المدن الكبرى نحو تقليص حجم الأسرة استجابة لضغوط الحياة اليومية، بينما تحافظ المناطق الزراعية والحدودية على نمط العائلة الممتدة نسبياً، وهو ما يجعل المملكة حالة دراسية فريدة عالمياً بسبب سرعة هذا التحول وتباينه الجغرافي الحاد.

أثر التفكك الأسري على انخفاض معدلات الخصوبة في السعودية

لا يمكن فصل الأرقام المتراجعة للمواليد عن واقع الاستقرار الأسري الذي يواجه تحديات غير مسبوقة؛ حيث ارتفعت معدلات الطلاق بشكل قياسي لتسجل 7 حالات في الساعة الواحدة خلال عام 2023، وهذا الارتفاع يغذي بشكل مباشر انخفاض معدلات الخصوبة في السعودية من خلال تقليص “سنوات الإنجاب” الفعلية للمرأة أو تأخير قرار الإنجاب حتى تتضح معالم العلاقة الزوجية، كما أن انتشار قصص الانفصال في المحيط الاجتماعي خلق ما يمكن تسميته “عامل الخوف” لدى فئة الشباب؛ مما جعلهم أكثر تردداً في اتخاذ قرارات مصيرية تتعلق بزيادة عدد أفراد الأسرة في ظل عدم اليقين باستدامة الزواج.

يضاف إلى حالات الطلاق الرسمية ظاهرة أكثر تعقيداً تعرف بـ “الزواج الصامت” أو الطلاق العاطفي؛ وهو حالة يعيش فيها الزوجان تحت سقف واحد منفصلين عاطفياً ومكانياً دون وثيقة طلاق رسمية، وتؤثر هذه الظاهرة الخفية بقوة على انخفاض معدلات الخصوبة في السعودية لأنها تنهي الحياة الزوجية فعلياً وتوقف الإنجاب دون أن تظهر في الإحصائيات الرسمية، ويعزى تصاعد هذه الحالات والطلاق المعلن إلى تغير الأدوار الجندرية وتمكين المرأة مادياً؛ مما جعل البقاء في علاقة غير ناجحة خياراً أقل إجباراً، إضافة إلى الضغوط المالية وتكاليف المعيشة التي تفجر النزاعات الأسرية.

المحركات الاقتصادية والاجتماعية وراء انخفاض معدلات الخصوبة في السعودية

حدد الباحثون أربعة محركات رئيسية تعمل مجتمعة على تشكيل هذا الواقع السكاني الجديد؛ حيث لم يعد إنجاب الأطفال في المدن يحمل نفس المنفعة الاقتصادية التي كان يمثلها في الحياة الريفية سابقاً، بل تحول إلى مسؤولية تتطلب استثماراً مكثفاً في التعليم والمهارات، وهذا التغير في المفاهيم يعد المحرك الأساسي لاستمرار انخفاض معدلات الخصوبة في السعودية، وتتضافر هذه العوامل مع التغيرات الثقافية ورؤية المملكة المستقبلية لتخلق نمطاً جديداً للأسرة السعودية الحديثة:

  • عامل التحضر: انتقال الغالبية العظمى من السكان إلى المدن أدى لتغيير نمط المعيشة وارتفاع تكلفة تربية الأبناء مقارنة بالبيئات الريفية.
  • الحوافز الاقتصادية: التحول من “الكم” إلى “الكيف” عبر الاستثمار في رأس المال البشري والتعليم بدلاً من التركيز على كثرة الإنجاب.
  • الاعتبارات المالية: ارتفاع تكاليف السكن والديون المترتبة على حفلات الزفاف الباهظة والمبالغة في المهور مما يؤخر سن الزواج والإنجاب.
  • تغير دور المرأة: دخول المرأة سوق العمل واستقلالها المادي رفع من “تكلفة الفرصة البديلة” للإنجاب وجعل الموازنة بين العمل والأسرة الكبيرة أمراً صعباً.

تساهم برامج رؤية 2030 في تعزيز هذا المسار من خلال تمكين المرأة وتنويع الاقتصاد؛ مما يجعل العودة إلى المعدلات القديمة أمراً غير متوقع في المستقبل المنظور، وهذا يعني أن انخفاض معدلات الخصوبة في السعودية لم يعد مجرد ظاهرة عابرة بل صار جزءاً من الهيكلية الديموغرافية الجديدة، وهو ما يطرح تحديات جدية تتعلق بتسارع “الشيخوخة السكانية” وتقلص قاعدة الشباب مستقبلاً؛ الأمر الذي يستدعي تطوير سياسات اجتماعية مبتكرة تدعم استقرار الأسرة وتحقق التوازن المطلوب لضمان حيوية المجتمع واقتصاده على المدى الطويل.

Exit mobile version