
ذوبان الأنهار الجليدية يشكل التحدي البيئي الأبرز الذي يواجه كوكبنا في العقود القادمة، حيث أظهرت الدراسات العلمية الحديثة أن القرارات السياسية والإجراءات الحكومية التي يتم اتخاذها اليوم للحد من ظاهرة الاحترار العالمي ستكون هي العامل الفاصل في تحديد مصير آلاف الكتل الجليدية حول العالم؛ فإما أن ننجح في إنقاذ ما يقارب نصف هذه الأنهار بحلول عام 2100 أو نتسبب في كارثة بيئية تؤدي إلى اختفاء أكثر من 90% منها إذا استمرت درجات الحرارة في الارتفاع دون رادع.
تحليل وتيرة ذوبان الأنهار الجليدية علميًا
أكدت مجلة “نيتشر كلايمت تشينج” المرموقة في نشرتها الأخيرة أن الدراسة الموسعة التي قادها عالم الجليد البارز لاندر فان تريخت قد وضعت العالم أمام حقيقة علمية لا تقبل الجدل حول ضرورة تبني سياسات مناخية أكثر طموحًا وجدية؛ إذ قام الفريق البحثي بدراسة وتحليل بيانات ضخمة شملت 211,490 نهرًا جليديًا منتشرًا في مختلف بقاع الأرض بالاعتماد على صور دقيقة ملتقطة عبر الأقمار الاصطناعية، وقد مكنت هذه التقنيات المتطورة الباحثين من تحديد توقيت دقيق لما أطلقوا عليه مصطلح “ذروة انقراض الأنهار الجليدية” وهو الوقت الذي سيتسارع فيه الفقدان بشكل غير مسبوق؛ وتشير التقديرات الحالية إلى أن كوكبنا يفقد بالفعل نحو 1000 نهر جليدي سنويًا في الوقت الراهن، إلا أن هذه الوتيرة المقلقة مرشحة للتسارع بشكل كبير في المستقبل القريب بناءً على مسارات الاحترار المختلفة التي قد يسلكها العالم.
السيناريوهات المتوقعة لمستقبل ذوبان الأنهار الجليدية
يرتبط مستقبل ذوبان الأنهار الجليدية ارتباطًا وثيقًا بمقدار الارتفاع في درجات الحرارة العالمية، حيث يوضح الجدول التالي الفوارق الهائلة في النتائج بين الالتزام بالحدود الآمنة للاحترار وبين السيناريوهات الكارثية لارتفاع الحرارة، والتي تم استخلاصها بناءً على النماذج المناخية الدقيقة التي طرحتها الدراسة:
| سيناريو ارتفاع الحرارة | ذروة الفقدان السنوي المتوقعة | الوضع بحلول عام 2100 |
|---|---|---|
| 1.5 درجة مئوية (الأمثل) | 2000 نهر جليدي بحلول 2041 | بقاء أقل من نصف الأنهار الجليدية |
| 2.7 درجة مئوية (المتوسط) | 3000 نهر جليدي بين 2040 و2060 | بقاء خُمس الأنهار الجليدية فقط |
| 4 درجات مئوية (الأسوأ) | 4000 نهر جليدي منتصف الخمسينيات | بقاء 9% فقط من الأنهار الجليدية |
تظهر البيانات بوضوح أن الفارق البسيط في درجات الحرارة قد يعني النجاة أو الفناء لآلاف الأنهار، ففي السيناريو الأكثر تفاؤلاً الذي يحد الاحترار عند 1.5 درجة مئوية، سيصل الفقدان السنوي إلى ذروته عند 2000 نهر بحلول عام 2041، وهو ما سيبقي على أقل من نصف المخزون الجليدي الحالي مع نهاية القرن؛ أما إذا ارتفعت الحرارة بمقدار 2.7 درجة مئوية فإننا سنشهد اختفاء نحو 3000 نهر جليدي سنويًا في الفترة ما بين 2040 و2060، ولن يتبقى للأجيال القادمة في عام 2100 سوى خمس الأنهار الجليدية التي نراها اليوم؛ وفي السيناريو الكابوسي حيث يرتفع الاحترار بـ 4 درجات مئوية، ستتسارع وتيرة ذوبان الأنهار الجليدية لتصل إلى اختفاء 4000 نهر سنويًا في منتصف خمسينيات القرن الحالي، مما يعني عمليًا زوال الجليد عن وجه الأرض باستثناء 9% فقط منه في المناطق شديدة البرودة.
تأثيرات عواقب ذوبان الأنهار الجليدية
لا تقتصر مخاطر هذه الظاهرة على الأرقام المجردة، بل تمتد لتشمل جوانب حياتية واقتصادية وثقافية متعددة، فعلى الرغم من أن ذوبان الأنهار الجليدية الصغيرة قد لا يكون له التأثير الضخم المباشر في ارتفاع مستوى سطح البحر مقارنة بانهيار الكتل الجليدية القطبية العملاقة، إلا أن فقدان هذه الأنهار الصغيرة يحمل في طياته أضرارًا جسيمة تمس المجتمعات المحلية بشكل مباشر؛ حيث يعتمد الملايين من البشر على هذه الأنهار كمصدر للمياه العذبة ومورد اقتصادي أساسي، ويمكن تلخيص أبرز التبعات المباشرة لفقدان هذه الثروات الطبيعية في النقاط التالية:
- تضرر قطاع السياحة الجبلية الذي يعتمد بشكل كلي على المناظر الطبيعية للأنهار الجليدية كعنصر جذب للزوار.
- طمس الهوية الثقافية للمجتمعات المحلية التي ارتبط تاريخها وتراثها بوجود هذه الأنهار الجليدية عبر القرون.
- نقص حاد في موارد المياه العذبة الموسمية التي توفرها هذه الأنهار للزراعة والشرب في المناطق المحيطة بها.
إن الإسراع في وتيرة فقدان هذه الموارد الطبيعية يضع العالم أمام مسؤولية تاريخية تتطلب تحركًا فوريًا يتجاوز مجرد الوعود، فالدراسة تثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن كل جزء من الدرجة المئوية في الاحترار العالمي يُترجم فعليًا إلى فقدان مئات الأنهار الإضافية سنويًا؛ وهذا يعني أن السياسات المناخية الطموحة ليست ترفًا بل هي ضرورة حتمية للحفاظ على ما تبقى من هذا التراث الطبيعي العالمي وضمان استدامة الموارد للأجيال التي ستعيش في القرن المقبل.
